ناتاشا سولومنز/ Natasha Solomons

ترجمة: خالد حسين

تُعدُّ الموناليزا أشهر امرأة في العالم ــ لكن يحدثُ أنها لوحةٌ. وفي العام الاعتيادي، فإنّ أكثر من ستة ملايين شخص يزور حيّزها في متحف اللوفر، وذلك لرؤيتها على وجه التحديد. وهم لا ينظرون إليها في الواقع فقط. إنما يقف معظمهم أمامها وظهورهم إليها، والهواتف ممسوكة بإيديهم لالتقاط صور سيلفي بينما يقفون في أقرب مكان ممكن منها، لكنهم يحافظون على مسافة ذراع عن طريق زجاج مضادٍ للرصاص بثخن 3 بوصات. ولا توجد لوحةٌ أخرى مثلها تملك حُراساً وحواجز للسيطرة على الحشود. قد تكون الموناليزا سيدةً تبلغ من العمر أكثر من خمسمائة عام، لكنها لا تزال تتصدّرُ جميع مشاهدات المشاهير.

وعلى مرّ القرون كانت الموناليزا معشوقةَ الأباطرة والملوك واللصوص. نابليون أحبَّها. في حين أن ماري أنطوانيت تجنبت ذلك ــ "صغيرة جداً، داكنة جداً" ــ ثم جرى وضعها في مكتب خلفيٍّ غير أنيق في فرساي حتى لا تقلق العيون الملكية. وفي القرن العشرين، جاءت جاكلين كينيدي والملكة إليزابيث كلتاهما لدفع مستحقات المحكمة.

لكن الموناليزا معروفة للغاية وذات طابع إيقوني جداً. فهي وبصعوبة بالغة تمثل حتى لوحة بعد الآن. إنها ميمي meme: ملصقة على مناشف الشاي، وحُصُر الفئران، والجوارب، وأكواب الرّصاص. وقد انقطع معظم زوارها منذ فترة طويلة عن رؤيتها، سواء كانت ظهورهم لها أم لا.

ورغم ذلك، فإن أولئك الذين نجحوا في النظر إليها قد يلاحظون قيمة غير اعتيادية لحياة نابضة في اللوحة، حضورٌ حيٌّ على وجه التقريب. ومنذ عصر النهضة، لاحظ المعجبون بلوحة الموناليزا، "أنها تفتقد إلى أي شيء ماعدا الكلام" (كاسيونو دال بوزو، الذي زار الموناليزا في الحصن الملكي في فونتينبلو Fontainebleau بفرنسا عام 1625). وفي روايتي، أنا موناليزا، ألتفتُ إلى هذا قليلاً. ماذا لو كانت تتكلم؟ ماذا لو كانت تحاول إعلامنا عن مغامراتها منذ خمسمائة عام ولم نستمع إليها؟

بعد رحلة خطفٍ إلى باريس وقبل فترة قصيرة من الإغلاق الأول لرؤيتها بشكل شخصيّ، فقد أمضيتُ معظم الأشهر التالية في المنزل أحملقُ في نسخها. وقد فكرتُ فيها بقلق عميق وحاولتُ أن أتصورَ ما سوف تقوله إذا كان يمكنها أن تتكلم. وعن أيّ من مغامراتها قد تعيد سردها؟ رحلتها عبر جبال الألب على ظهر بغل مع ليوناردو دافنشي؟ أو تلك الأعوام السبعين التي أمضتها في صالون قصر ملك فرنسا في فونتينبلو، حيث حاشية الملك العراة يحدقون إليها؟

كلما قرأتُ عنها أكثر وحدّقتُ فيها، كان من السهولة رؤيتها وسماعها معاً. فمن بين الأشياء الممتعة والمفاجئة في كتابة الرواية هو أنني لم أجد صوتها فحسب، بل اكتشفتُ أنني أستطيع رؤية المعجزة المطلقة للموناليزا مرة أخرى.

لكن ما الذي يصنع من هذه اللوحة معجزة للغاية؟ فهناك القليل من الالتباس حول هويتها. فقد جرى تأسيس النموذج بصرامةٍ من قبل العلماء بوصف مادونا ليزا ديل جيوكوندو هي النموذج، أي زوجة فرانشيسكو ديل جيوكوندو، تاجر الحرير الفلورنسي الثري. حيث كان ليوناردو دافنشي أحد جيران جيوكوندو الغني، وكانت ليزا زوجة فرانشيسكو البهية فرصة مغرية بالنسبة له في عام 1503. وتبعاً لجورجيو فاساري، جرى رسم ليزا في فناء مليء بأشجار الليمون المعطّرة بعذوبة بينما عزف الموسيقيون على [صدى] ابتسامتها الشّاعرية، ولكن هذه الاحتمالات كلها مضلّلة. (فقد كان فاساري يكتب بعد خمسين عاماً من رحيل دافنشي؛ بينما كان يتحدّث إلى الأشخاص الذين يعرفون الجيوكوندو، وربما لم يشاهد اللوحة مطلقاً، وقد كان معروفاً بإضافة الزخارف البيانية والوصفية).

وابتسامة الموناليزا التي نعدُّها ملتبسة ومماثلة لأبي الهول هي ابتسامة متمرد. فخلال عصر النهضة، جرى رسم النساء وهن ينظرن بشكل رزين إلى الأسفل بنظرة خاطفة ـ إذا اختار الرسام رسمهن مبتسماتٍ بصورة مطلقة ــ وإذا تقابل الموضوعُ الأنثوي مع المتفرج (وهو أمر نادر للغاية)، فمن اليقين أنهن لم يبتسمن. ولكن مع موناليزا، يؤدي دافنشي شيئاً جديداً بصورة كلية، فهو قد أبدع [هيئة] امرأة تنظر إلينا بصورة مباشرة، وتقابل أعيننا وتتجرّأ على الابتسام. هذه الابتسامة ليست مبهمة، فالموناليزا هي امرأة متمردة في عصر النهضة.

أثناء عملية الرسم حدث شيء مدهش ومثير. فقد استهلك هذا الرسم دافنشي ستة عشر عاماً من العمل عليها، وفي الواقع، لم تنته البورتريه. من المؤكد أنه لم يجر تسليم العمل مطلقاً لفرانشيسكو. هذا وقد أصبح دافنشي مهووساً باستكمالها. وفي نقطة ما، توقفت المرأة في اللوحة عن كونها ليزا ديل جيوكوندو وغدت عوضاً عن ذلك تجسيداً لأفكار دافنشي وفلسفاته ـــ وذلك بتمثيلٍ بصريٍّ للمرأة بصورة عامة. ولوحة موناليزا هي إدراك دافنشي لما ينبغي أن يكون عليه الكائن الإنساني. إنها تكثّف رؤيته الفلسفية، وهذا جزءٌ مما يمنح اللوحة معناها الملغز. وقد كبح الفنان وبتعمدٍ شيئاً عن المتفرج، فهو يطلب منا جلب قطعة من ذواتنا إلى اللوحة عندما ننظر إليها. فاللوحة هي ليزا ودافنشي، لكنها "نحن" في الوقت ذاته. وهذا ما يمنحها الحضور والحياة.

لم يجر التعرُّف على عبقرية دافنشي باستمرار خلال حياته. حيث منافساه رافائيل سانزو ومايكل أنجلو كانا المفضلين، وفي روما وهب لهما بابا ميديتشي كل تفويض ممتاز. ونتيجة لخيبة الأمل، ترك دافنشي إيطاليا بقبول حماية الملك الفرنسي الشاب، فرانسيس الأول ــ إذ سافر عبر جبال الألب مع لوحة موناليزا وهي مشدودةً إلى ظهر بغل. وفي فرنسا بمدينة أمبواز، أصبح كل من الموناليزا ودافنشي عامل جذبٍ سياحيٍّ. ورغم ذلك، حتى بعد رحيله في عام 1519، لم تكن شهرته خُرافية بعدُ، ولم تغدُ الموناليزا ــ على الرغم من كونها لوحة شهيرة ــ أيقونةً(رمزاً) إلا بعد عدة قرون خلت. وهذا ما تطلّب سرقتُها من متحف اللوفر في صيف عام 1911.

اصطف المواطنون في طوابير لساعاتٍ ليتأملوا الفضاء الفارغ حيث جرى تعليق لوحة موناليزا ذات مرة.

كان فينتشنزو بيروجيا Vincenzo Peruggia قومياً إيطالياً. وزعم فيما بعد أنه اختلس الموناليزا من أجل إعادتها إلى وطنها الإيطالي. وفي يوم من أغسطس، إذ كان يعمل في المعرض الفني، اختبأ حتى يُغلق. ثم تسلّل وانتزع اللوحة ليخرج بها مخفية تحت ثياب مصمّم الديكور، دون خطر. وهكذا استيقظت مدينة باريس على ما قد فقدته: إذ اصطف المواطنون في طوابير لساعات للنظر في الفضاء الفارغ حيث كانت موناليزا معلّقة مرة، وكانت هناك [محلات] لكوكتيلات الموناليزا وملاهيها، وكذلك كانت على الصفحة الأولى من كل جريدة وجرى رُصدها في برلين ولندن ونيويورك. ومن جهة أخرى جرى القبض على [الرسام الإسباني] بيكاسو لأجل سرقتها. بينما لم يكن هو الجاني [الحقيقي]، ولكن ثمة سبب كونه كان مشتبهاً به: إذ خبّأ زوجين من التماثيل الإيبيرية القديمة في جوربه حيث سُرقا من المعرض قبيل بضعة أشهر. اعتزم بيكاسو وصديقه أبولينير إلقاء المنحوتات المسروقة في نهر السين Seine، لكنهما لم يتمكّنا من إقناع نفسيهما للقيام بذلك. ولذلك فقد أودعها أبولينير لدى مكاتب جريدة باريس، مما أدى إلى اعتقال الرجلين. وبعد ذلك بسنتين جرت تبرئة بيكاسو من الشكوك كافة، وذلك عندما أُلقي القبض على بيروجيا في فلورنسا وهو يحاول بيع الموناليزا لمدير معرض أوفيزي هناك. ومع الكثير من الجلبة أُعيد تعليق الموناليزا في متحف اللوفر. بمعنى أنها لم تعد أبداً. أي سُرقت اللوحة، لكن رمزيتها عادت. وأولئك الذين احتشدوا لأجل لوحة مسروقة، لكن الرمزية عادت. أولئك الذين توافدوا لدفع مستحقات المحكمة لأجلها لم يعد يقفون أمام لوحة مدهشة، بل هناك الكثير من التاريخ والرمزية المرتبطة بها لدرجة أنها أصبحت محجوبة بالفعل. [وأخيراً] مغامراتها مذهلة حقاً ــ وفي روايتي، تسردها موناليزا بكلماتها الخاصة، وبصوتها الخاصّ ـــ لكن آمل أن تعيدنا هذه المغامرات إلى اللوحة وتنبهنا إلى النظر إليها لا أن ندير لها ظهورنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالتعاون مع موقع رامينا نيوز

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم