كيف تحوّلت ذكرى إلى رواية "ليالي الرقة الحمراء"
حين جرى محمود خلفي صباحاً وأنا في طريقي إلى المدرسة ليستشيرني في موقف حدث معه أمس بين الحقول على أطراف الرقّة بينما كان يحمل كتابه ويدرس وقت الأصيل، لم أتوقّع أنّ موقفه هذا والذي شغل باله ليوم، وشغل بالي لسنوات، سيتحوّل بعد خمس وثلاثين سنة إلى رواية.
يبدو لي هكذا هي الرواية، لا تأتي من فراغ، ولا من تخيّلات مجرّدة، وإنّما هي بذرة تنمو في ذهن الروائيّ حتّى تنضج، وتثمر عن نصّ روائيّ.
وبالإمكان صياغة هذه الفكرة كالتالي: كما أنّ البذرة تنمو في التربة وتغدو بعد حين شجرة، كذلك تنمو الفكرة في رأس الروائيّ وتصبح بعد حين رواية. هذا ما استنتجته وأنا أستحضر ذلك الموقف الذي تعرّض له محمود قبل زمن طويل وأكتب روايتي "ليالي الرقة الحمراء".
قال محمود، وكان مثلي في الصفّ التاسع: "كنت أسير على طريق ترابي بين الحقول وأدرس... على يساري كان حقل أشجار الحور الباسقة. وعلى يميني كان العمّال مشغولين بقطف القطن. وعندما ألحّ عليّ البول، تسلّلت بين الأشجار ورحت أتبوّل واقفاً. لكن عجوزاً طاعنة في السنّ هاجمتني من الخلف. وكانت تحمل حجارة في يديها وتقول لي: أتحسبني غبيّة ولا أفهم لماذا دخلت بين الأشجار عندما صرت في محاذاتي يا ابن الكلب؟".
ضحكت وسألته: "وماذا كانت ردّة فعلك؟".
فردّ: "وماذا عساها أن تكون؟... أطلقت العنان لساقي وهربت حتى خرجت من الطرف الآخر من الحقل. وعندها اكتشفت أن سحابي ما زال مفتوحاً...".
وضحك، ثمّ أضاف: "لا أدري حتّى الآن ما الذنب الذي ارتكبته حتى هاجمت عليّ هذه المخلوقة؟".
أجبته حينها: "لعلّها كانت مجنونة يا محمود... ومن الأفضل لك ألا تشغل بالك بما حدث".
وبالفعل لم أكن أعلم آنذاك، مثلي مثل محمود، وأنا في الخامسة عشر أو السادسة عشر من العمر لماذا تصرّفت هذه العجوز على هذه الشاكلة مع صبيّ يحمل كتابه بين يديه ويجوب التخوم ويدرس. بيد أنّني كنت على يقين أنّها لم تكن مجنونة. هذه كانت البذرة التي زُرعت في رأسي آنذاك، واستغرقت خمس وثلاثين سنة حتّى تتحوّل إلى شجرة.
وستمرّ السنوات وسأدرس الطبّ. وستفتح مادة الطبّ النفسيّ في السنة الخامسة بصيرتي على الكثير من مواقف الناس ومسالكهم التي يصعب عليّ تأويلها. وستفسّر لي السبب الذي جعل تلك العجوز تهاجم على ذلك الفتى الوديع محمود بتلك الطريقة الغامضة... وربما ليست دراسة الطبّ وحدها فكّت لي شيفرة ذلك الحدث، وإنّما النضج أيضاً.
والجدير بالذكر أنّ الرواية، وعلى الرغم من أنّها مفعمة بسرد النوازع والميول النفسيّة لدى الإنسان، إلا أنّ كلّ ما ورد فيها من معلومات وأحداث بهذا الصدد هي من وحي اجتهادي الشخصيّ وليست تشخيصاً لحالات مرضية معيّنة. وهي في الأساس، وفيما إذا استثنينا الموقف المذكور، رواية خياليّة بامتياز، كتبتها من وحي الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ لمدينة الرقّة والأرياف التابعة لها محاولاً أن أضفي على كلّ فصل فيها عبرة ومعنى.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ العمل الروائيّ شاقٌ ومجهدٌ حتّى عند الكتّاب الذين يمتهنون الكتابة ويكرّسون أنفسهم لها، فما بالكم بمن يعمل تسع ساعات في اليوم الواحد، ويعود إلى البيت بعد الدوام تاركاً وراءه رهطاً من المرضى يئنّون، وفي أية لحظة يمكن أن يُستدعى إلى غرفة العمليات؟ لكن كلّ ما هو صعب يهون أمام الإرادة الصلبة والعزم الدؤوب. ففي داخل كلّ فرد منا طاقات هائلة لو عرف كيف يستغلها لما بقي أحد بيننا إلا وبرع في مجال ما.
وعلى الرغم من أنّ تجربتي في عالم الكتابة ليست بتلك التجربة الواسعة أو الطويلة إلا أنّها علّمتني الكثير.
علّمتني أنّ التردّد في الإقدام على الكتابة بذريعة أنّ الظروف غير ملائمة، ما هو إلا طريقة التوائية تلجأ إليها النفس للتغطية على كسلها وخوفها، فأجمل البنود والعبارات التي كتبتها في رواياتي كتبتها في أحلك الظروف وأكثرها صعوبة. وأجمل الأفكار واتتني وأنا في أشدّ حالات الضيق والشدّة.
وعلّمتني أهمّية الخطوة الأولى في مشوار الرواية الطويل. أعني أهمّية كتابة الجملة الأولى، على الرغم من أنّ كتابة هذه الجملة ليست بالأمر السهل، وهي لا تأتي إلّا بعد تردّد وتجبّن قد يطولان شهوراً، وقد يُوديان بالكاتب إلى الإحباط وفقدان الثقة بالذات. فإذا كتبتُ هذه الجملة بتّ على قناعة أنّ كتابة الجملة الأخيرة تحصيل حاصل ومسألة وقت.
وأودّ أن أشير هنا إلى مسألة أخرى وهي عادةٌ لازمتني في ساعات الكتابة منذ أن كتبت أول سطر في مجال الأدب. ولازمتني بصورة أشدّ أثناء كتابة "ليالي الرقة الحمراء". فقد يتّفق أن أحزن وأبكي على حدث تخيّلته وكتبته بنفسي، أو أضحك على آخر تخيّلته وكتبته هو الآخر بنفسي. لكن بعد فترة أعود وأقرأ هذين الحدثين لأراهما عاديين، لا هذا يبكيني ولا ذاك يضحكني.
ولا أخفي عن أحد أنّني تأثّرت عاطفياًّ ببعض فصول رواية "ليالي الرقة الحمراء" وأنا أكتبها. فبكيت على حال ذلك الطفل البائس نايف عواد المصلح، وهو يتحوّل من صبيّ متّقد الذهن حالم بالطيران في السماء إلى قاتل وفقير لا يجد بدّاً من العمل كزبّال ليحصل على قوته اليوميّ. وكذلك غضبت أشدّ الغضب على تلك العجوز المسنّة، حليمة، التي استغلّت نايف شرّ استغلال وتلاعبت به أيّما تلاعب....
هكذا كنت أبكي على بطل روايتي نايف وأحقد على من ظلمه. وأتساءل لماذا رماه الدهر هذه الرمية المؤلمة؟ ولماذا ظلمه المجتمع هذا الظلم؟ ولماذا امتنع الآخرون عن مساعدته والأخذ بيده إلى بر الأمان؟ لأترك تساؤلات، تجعل القارئ يفكّر، ويجيب عليها بنفسه.
بقي أن أشير إلى أنّ نجاح أو فشل أية رواية لا يقع على عاتق المؤلف فحسب، بل على دار النشر التي تنشرها أيضاً. فدور النشر الحريصة على إنتاج كتاب جيد من ناحية الشكل والمضمون تنبيه الكاتب على بعض الأخطاء التي قد يغفل عنها أثناء الكتابة وتقترح عليه تصحيحها، وكذلك تناقشه حول شكل غلاف الكتاب، ونوع الخط، ومسائل فنية أخرى. وهذا ما قامت به دار النشر رامينا، مشكورة، على أكمل وجه، حتى صدر العمل بحلّة قشيبة أسعدتني بحقّ.
0 تعليقات